أسعد سليم يكتب: أيام الألم.. كيف قتلنا نجيب محفوظ
اليوم السابع -

يعد كتاب "أيام الألم.. كيف قتلنا نجيب محفوظ" للدكتور محمد الباز، الصادر عن دار ريشة للنشر والتوزيع عام 2025، وثيقة إنسانية وفكرية مؤثرة تروى قصة الألم العميق الذى أحاط بجنبات أديب نوبل العربى الوحيد، نجيب محفوظ، منذ محاولة اغتياله البربرية عام 1994 حتى وفاته المأساوية فى أغسطس 2006.

هذا الكتاب ليس مجرد سرد تاريخى للأحداث الجسام، بل هو اتهام صريح وشجاع يوجهه الباز إلى المجتمع بأسره – أفرادا وجماعات، أسرة، أصدقاء، معارف، ومؤسسات – بالمشاركة فى قتل محفوظ، ليس عن طريق الخنجر الذى اخترق رقبته، بل بالإهمال المزمن وسوء المعاملة وعدم التقدير الذى لازم الأديب الفذ حتى لحظاته الأخيرة.

من خلال شهادته الشخصية المستندة إلى ما رآه وسمعه وشاهده، يأخذنا الباز في رحلة موجعة عبر سنوات محفوظ الأخيرة، كاشفا عن وجه آخر من حياة هذا الأيقونة، وجه ظل مخفيا بعيدا عن أضواء الشهرة والتكريمات.

يُفتتح الكتاب بقصيدة الشاعر أحمد عبد المعطى حجازى الشهيرة "الساعة الخامسة مساء"، التي كتبها تعبيرا عن الصدمة العميقة التي هزت الوجدان الثقافي العربى إثر محاولة اغتيال نجيب محفوظ، وكانت بمثابة الصرخة المدوية التي عكست لحظة انكسار في وعى أمة طعنت تاريخها وتراثها ورمزها الأدبى الأبرز.

تبع القصيدة نص كلمة محفوظ ذاته بعد الحادث الأليم، والتي حملت بين طياتها مزيجا نادرا من الألم الدفين والتسامح النبيل، أبرزت شخصية رجل رفض الهزيمة رغم الجرح الغائر في رقبته وقلبه.


أيام الألم

في المقدمة، يرسم الباز الإطار العام لكتابه، مؤكدا أن محفوظ لم يقتل مرة واحدة في ذلك اليوم المشئوم من أكتوبر عام 1994، بل تعرض لاغتيال مستمر ومتعدد الأوجه حتى رحيله عن دنيانا عام 2006، ويعد القارئ بتقديم شهادة جريئة وصادقة عما عايشه بنفسه أو من خلال آخرين ثقات، ليكشف عن الأيام المرة التي عاشها الأديب الخالد.

تتجلى اللحظة المفصلية في حياة محفوظ يوم الجمعة الموافق 14 أكتوبر عام 1994، عندما تعرض لمحاولة اغتيال وحشية أثناء استعداده لركوب سيارة صديقه الطبيب البيطرى فتحى هاشم، متجها إلى الندوة الأدبية الأسبوعية، هذه الطقوس التي حافظ عليها محفوظ والتي كانت تمثل ملاذه الروحى وسط الناس.

فجأة، تقدم شاب نحوه وطعنه بمطواة في الجهة اليمنى من رقبته، ثم فر هاربا برفقة شاب آخر في سيارة مرسيدس صفراء تحمل لوحات جمارك السويس.

بسرعة بديهة عالية وإلهام وشجاعة، أزال فتحى هاشم المطواة من رقبة محفوظ، ونقله على الفور إلى مستشفى الشرطة، التي كانت لحسن الحظ على بعد حوالي 200 متر فقط، في لحظة كانت فارقة لإنقاذ حياته.

هناك، خضع محفوظ لعملية جراحية طويلة ومعقدة، نُقلت خلالها كمية كبيرة من الدم لتعويض ما فقده من نزيف حاد.
تحسنت حالته تدريجيا في اليوم التالى، لكن أكثر ما أقلق محفوظ لم يكن متعلقا بجسده المجروح بقدر ما كان يتعلق بحياته اليومية.

كان الرجل يخشى أن يجبره الحادث على تغيير أسلوب حياته البسيط الذى عشقه: التجول في شوارع القاهرة، الجلوس مع الناس، والاندماج في نسيج الحياة اليومية دون خوف أو حراسة.

تذكر محفوظ حينها فتوى الشيخ عمر عبد الرحمن مفتى الجماعة الإسلامية والتي كفرته ودعت لقتله قبل الحادث بفترة، كما تذكر رفضه السابق للحراسة الأمنية التي عرضتها عليه وزارة الداخلية، وذلك لإيمانه العميق بالحياة الحرة والثقة في الآخرين حتى وإن خانته هذه الثقة في لحظة الطعن.

في مستشفى الشرطة، بدأت تتكشف معاناة محفوظ الصحية والنفسية: العملية الجراحية الدقيقة في الرقبة، النزيف الشديد، الشلل الذى أصاب يده اليمنى، إصابته القديمة بمرض السكرى ومشاكل القلب، ضعف بصره بسبب تراكم المياه البيضاء، قلة الحركة، والإمساك المزمن، كلها شكلت تحديات جسدية هائلة.

ورغم الرعاية الطبية الفائقة التي قدمها الأطباء، والتي ساهمت في تعافيه البدنى إلى حد كبير، ظل الألم النفسى يحاوطه ويسكنه.

كان محفوظ مريضا مثاليا، يتعاون مع الأطباء ويحترم تعليماتهم، لكنه كان ينزف من الداخل أكثر مما نزف من الطعنة الغادرة، تسللت خيبات الأمل والوحدة إلى روحه.

تلقى محفوظ زيارات من كبار المسئولين، مثل رئيس الوزراء عاطف صدقى، وزير الداخلية حسن الألفى، ووزير المالية الرزاز، إلى جانب أصدقائه البارزين أمثال محمد سلماوى، جمال الغيطانى، ويوسف القعيد، لكن الزيارة الأكثر إثارة للجدل كانت للشيخ محمد الغزالى، الذى كتب تقريرا عام 1959 يتهم رواية "أولاد حارتنا" بالكفر والإلحاد، مما ساهم في منع نشرها بمصر.

في زيارته، تمسك الغزالى برأيه في الرواية، لكنه رفض فكرة الاغتيال، في سلوك بدا وكأنه محاولة لغسل اليدين من دم محفوظ، يرى الباز أن الغزالى، بتقريره الذى أشعل فتيل التكفير، كان المحرض الأول على القتل، حتى وإن لم يحمل السكين بنفسه.

يكشف مؤلف الكتاب الدكتور محمد الباز عن تفاصيل مخيفة حول الخلية الإرهابية التابعة للجماعة الإسلامية، والتي ضمت ستة عشر فردا، وخططت لاغتيال مفكرين، رجال شرطة، وزراء ومسئولين، إلى جانب تفجير مترو الأنفاق ومواقف هيئة النقل العام.

دشنت تلك الخلية باكورة أعمالها بمحاولة اغتيال محفوظ، رغم أن أعضاءها لم يقرؤوا أولاد حارتنا أو أيا من أعماله الأدبية، كان دافعهم فتوى صدرت من أميرهم، مستندة على تكفير عمر عبد الرحمن، وكانوا يرون تنفيذها واجبا دينيا، تم القبض عليهم بعد يومين فقط من الحادث، وخلال التحقيقات، اعترفوا بجريمتهم بكل برود، وصدرت الأحكام المغلظة بحقهم، بما فيه حكم الإعدام للشاب محمد ناجى الذى طعن محفوظ.

ورغم عدم وجود مواجهة مباشرة وجها لوجه بين محفوظ وقاتله محمد ناجى، كانت هناك مواجهات غير مباشرة عبر التحقيقات. قدم محفوظ تفسيرا لروايته "أولاد حارتنا"، مؤكدا أنها من وجهة نظره إضافة للدين وللعلم معا، وليس فيها ما يسئ لأى من الرسالات السماوية أو الأنبياء. وفي لفتة إنسانية نادرة، سامح قاتليه منذ اللحظة الأولى، معتبرا أنهم ضحايا التغرير والجهل، بل إنه أهدى إليهم ثلاثة من كتبه، مرفقا إهداء يعكس إيمانه بالثقافة كسبيل للإصلاح: "إلى من يخالفنى الرأي، أهدى سطورا كتبتها لمصلحة مجتمع لن ينصلح حاله إلا بالثقافة". في المقابل، أبدى القاتل محمد ناجى في حواره مع الكاتب محمد سلماوى، جهلا تاما بأعمال محفوظ، مؤكدا أنه نفذ الأوامر دون تردد، وأنه سيقتله مجددا لو أتيحت له الفرصة، حتى بعد علمه بمسامحة محفوظ له. ومن اللحظات المؤلمة بشدة، عندما اضطر محفوظ إلى التبصيم على أقواله في التحقيقات نظرا لعدم قدرته على التوقيع بسبب شلل يده اليمنى أثر الحادث الغادر، الرجل الذى أمتع العالم أجمع بكتاباته لم يعد قادرا يا للأسف على الكتابة!

في سنواته الأخيرة، تفاقمت معاناة محفوظ بشكل هائل، عام 2006، سقط من سريره في منزله، مما تسبب في جروح خطيرة برأسه، نُقل إلى مستشفى الشرطة، حيث خُيط جرحه، لكنه سقط مجددا من على سرير المرض بالمستشفى في واقعة مريبة، مما زاد من كدماته وتدهورت حالته الصحية بشكل كبير ومتزايد، فقد شهيته للطعام وتوقف عن الأكل تماما، ودخل في غيبوبة متقطعة، حتى أجريت له جراحة لإدخال أنبوب تغذية إلى معدته. يصف الباز رفض محفوظ للإجراءات الطبية وكأنه رغب في الرحيل، في مشهد يعكس استسلامه للألم الذى لم يعد يحتمله.

لقد كانت جنازة محفوظ فصلا من الألم الاجتماعى، الجنازة الشعبية التي أرادها من مسجد الحسين، حسب وصيته، شابها تدخل الأمن الذى أخرج المصلين للتأمين، بينما اقتصرت الجنازة الرسمية من مسجد آل رشدان على حضور المسئولين، في مشهد بدا وكأن المجتمع يودع رمزا له في سرية وكتمان، دون أن يشعر أحد بفداحة الخسارة.

التصرف الأكثر إيلاما وقسوة كان موقف أسرته، التي رفضت رفضا باتا إحياء ذكرى الأربعين له عند حلولها، بدعوى أن تلك الطقوس ليست من الإسلام في شيء! كما رفضت الأسرة أيضا العرض الكريم التي قدمته وزارة الثقافة المصرية بنقل جثمانه من مكان بعيد عن القاهرة إلى مكان قريب أعد خصيصا تكريما له، وكان الرفض هذه المرة بزعم أن نقل الجثمان بعد الوفاة لا يجوز شرعا! كما رفضت الأسرة طلب كل من السيناريست وحيد حامد، والمخرج خالد يوسف، بشراء حقوق رواية "أولاد حارتنا" لتحويلها إلى عمل سينمائى، أما الحجة تلك المرة – ويا للهول – أن الرواية ضد الإسلام! وصف الباز هذا الموقف بالطعنة الغادرة.

كتاب "أيام الألم" ليس مجرد سيرة ذاتية عن سنوات نجيب محفوظ الأخيرة، بل هو مرآة قاسية تعكس الوجه القبيح لمجتمع فشل في تقدير أحد أعظم أبنائه، من الطعنة الخسيسة التي أدمت رقبته إلى الإهمال الأسري والمجتمعي الذي أدمى روحه، يؤكد الباز أننا جميعا – كأفراد ومؤسسات – شاركنا في قتل محفوظ، سواء بحد السكين أو بحد اللامبالاة، الكتاب دعوة صريحة للتأمل في قيمة المثقف في مجتمعنا، وتحذير صارخ من تكرار مثل هذه المأساة الإنسانية، بأسلوبه الشفاف والمؤثر، ينجح الباز في تقديم شهادة حية ومؤلمة عن رجل لم ينل منا التقدير أو الرحمة التي يستحقها، حتى في لحظاته الأخيرة، تاركا إيانا أمام سؤال موجع: كيف قتلنا نجيب محفوظ؟



إقرأ المزيد